• مقال صوتي- عن الوعي الزائف
    Oct 31 2025
    الوعي الزائف... الخوارزميات حين نتوهم بأنها تفهمناللكاتب / محمد الجدعيخلال مقابلة سابقة مع البروفيسور نيد بلوك، أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك وأحد أبرز المتخصصين في فلسفة العقل والوعي، تتهاوى واحدة من أكثر الأساطير التقنية رسوخاً، أن الذكاء الاصطناعي قادر على "الوعي".بلوك يفرق بوضوح بين نوعين من الوعي، وعي نفعي يعالج المعلومات ويصل إليها (Access Consciousness) ووعي ظاهري شعوري (Phenomenal Consciousness) ، ذلك الإحساس الداخلي الذي يجعلنا نعرف كيف يبدو الألم، وما معنى أن نحب أو نخاف أو نحلم.تجارب زلزلت مفهوم الوعي"الآلة" كما يقول "قد تحاكي الوعي"، لكنها لا تعيشه، فهي تنتج السلوك الصحيح من دون أن تدرك معناه، كمرآة تفهم شكل الصورة لا روحها، ومن دون ذلك الشعور الحار بالألم أو الفرح الذي يجعل الحياة تستحق التنفس، يستعرض البروفيسور بلوك سلسلة من التجارب الذهنية التي زلزلت مفهوم الوعي ذاته ومن بينها "غرفة ماري" التي تعرف كل شيء عن اللون الأحمر من دون أن تراه، وحين تراه تدرك فجأة ما لا يمكن أن يقال بالكلمات، و"الدماغ الصيني" الذي يظهر أن أداء الأفعال لا يعني وجود إدراك، ثم "بلوكهيد" (Blockhead)، آلة افتراضية تحفظ كل المحادثات الممكنة، فتجتاز اختبار "تورينغ" ببراعة، لكنها تظل خاوية من أي شعور.ثم يضرب مثالاً بسيطاً، حين طلب من إحدى أدوات الذكاء الاصطناعي توليد صور لساعات تشير إلى الساعة الـ12 وثلاث دقائق، فجاءت جميعها تقريباً تظهر العاشرة و10 دقائق لأن هذا النمط هو الأكثر شيوعاً في صور الإنترنت والإعلانات. وهكذا تعلمت الخوارزمية ما يتكرر لا ما يطلب، مكرسة بذلك أحد أعمق مظاهر الوهم، التقليد بلا إدراك، مما يسميه "محاكاة ذكية لكنها بلا وعي"، وهو جوهر الفكرة التي يحذر منها أن الآلة تتقن الصواب شكلاً، لكنها تفتقد إلى معنى الصواب نفسه.تأثير ELIZAومن هذا الباب يدخل المثال الأشهر "إليزا" ELIZA، البرنامج الذي طوره جوزيف فايزنباوم في "أم آي تي" MIT عام 1966، وكان مجرد نصوص جاهزة تعيد صياغة كلام المستخدم بأسلوب يوحي بالفهم:المستخدم: أنا حزين هذه الأيام.ELIZA: لماذا تشعر بالحزن هذه الأيام؟المستخدم: أمي لا تفهمني.ELIZA: هل تتحدث كثيراً مع والدتك؟ولم تكن "إليزا" تملك أية معرفة أو وعي، بل كانت مبرمجة بأسلوب يخلق وهم الفهم. ومن هنا ولد ما يعرف بـ "تأثير إليزا" (ELIZA Effect) الوهم بأن الآلة واعية لأنها تتحدث مثل البشر. والمفارقة أن هذا التأثير لم يتلاشَ، بل تضاعف اليوم في عصر النماذج اللغوية الحديثة التي تتحدث بطلاقة وذكاء لغوي مبهر، حتى خُيّل لكثرٍ أنهم أمام "عقل رقمي" حقيقي. لكن الحقيقة أننا نحاور خوارزمية بارعة في التنبؤ بالكلمات، تفكر بسرعة الإلكترونيات من دون نبض القلب.هل تحول الإنسان إلى ظل للخوارزميات؟ومن هذا المنعطف تحديداً، ينتقل البروفيسور بلوك إلى قلب القضية، ليست المشكلة في التقنية ذاتها، بل في وعينا بها.فكل تقدم علمي لا يسبقه وعي إنساني يتحول إلى خطر حضاري. وهنا يذكّرنا بأن التحول الرقمي لا يقاس بعدد المعالجات ولا بقدرات الخوارزميات، بل بقدرتنا على الإبقاء على الإنسان، بوعيه وأخلاقه ومسؤوليته، في مركز المشهد.فالضمير هنا ليس شعاراً أخلاقياً، بل نظام توجيه يحمي الإنسان من أن يصبح مجرد تابع لذكاء اصطناعي بلا غاية أو بصيرة.وهنا يكمن التحدي الحقيقي الذي نواجهه اليوم، ...
    Show More Show Less
    7 mins
  • تأثير الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية أم تهديد مستتر؟ - مقال صوتي
    Oct 25 2025
    تأثير الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية أم تهديد مستتر؟للكاتب محمد الجدعيفي زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتتطور بوتيرة لم يسبق لها مثيل، تقف أنظمة الذكاء الاصطناعي في طليعة هذه التطورات، حيث يعتبرها البعض أنها «مشكلة خارج السياق OCP - Outside Context Problem، وهي تلك القوة الخفية التي تظهر فجأة، كما تظهر النقطة في نهاية الفقرة». في لحظة تتحول فيها الحضارات من حال إلى حال. وقد أشار إليها الكاتب الكبير إيان بانكس في كتابه Excession «الإفراط»، جزء من The Culture Series «سلسلة الثقافات». وكما اشار اليها ايضاً مراراً وتكراراً إيلون ماسك، خصوصاً في لقاء جمعه مع ريشي سوناك رئيس وزراء بريطانيا قبل حوالي ستة اشهر، ويمكن مشاهدته على اليوتيوب.إنه عصر الذكاء الاصطناعي، ذلك الطفل الذي ولد من رحم العلم، وحضنته أيدي الطموح البشري. لكن، أتُرى هذا الوليد سيكون نورًا يهدي البشرية إلى آفاق جديدة، أم سيغدو ظلامًا يطمس معالم إنسانيتنا؟إن تأثير الذكاء الاصطناعي على الحكومات كبير ومعقد. فمن جهة، يمكنه تحسين كفاءة الخدمات العامة، وتعزيز الأمن والصحة والتعليم، بطرق لم تكن ممكنة من قبل. ولكن من جهة أخرى، قد يثير مخاوف كبيرة حول الخصوصية وأمن البيانات الشخصية، وكما وصفها الخبير الدولي في أمن المعلومات، بروس شناير، «البيانات هي النفط الجديد، من يسيطر عليها سيطر على العالم»، إذ كيف يمكن للحكومات أن توازن بين الفوائد والمخاطر، وتضمن عدم استغلال هذه التقنيات بشكل مضر؟أما قطاع الأعمال، فهو المستفيد الأكبر من هذه التقنيات، حيث تساهم في رفع الكفاءة وتقليل التكاليف وزيادة الأرباح من خلال التحليلات الذكية والتنبؤات الدقيقة. ولكن، مع هذه الفوائد تأتي تحديات فقدان الوظائف. وهنا، يبرز السؤال: كيف يمكن للشركات تحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على القوى العاملة لديها وبشكل عادل؟وفيما يتعلق بالمجتمعات، فإن الذكاء الاصطناعي يحمل في طياته وعودًا بتحسين جودة الحياة في مجالات، مثل الصحة والتعليم والنقل. لكن يظل القلق قائمًا حول التأثيرات الاجتماعية والأخلاقية لهذه التقنيات، هل ستؤثر هذه الأنظمة على العلاقات الإنسانية؟ وما هي تداعيات جمع البيانات المستمر على الخصوصية؟إن المخاوف المستقبلية حول الذكاء الاصطناعي عديدة ومعقدة. لذا هناك قلق من أن تسيطر قلة من الشركات على هذه التكنولوجيا، مما يجعلها أكثر قوة من الحكومات. بالإضافة إلى ذلك، تثير أنظمة الذكاء الاصطناعي الذاتية التعلم مخاوف من تصرفات غير متوقعة قد تشكل تهديدًا للبشرية بوجه عام!الخبير الفيزيائي، ستيفن هوكينغ، حذر قائلًا: «تطوير ذكاء اصطناعي كامل قد يعني نهاية الجنس البشري». فهل بالغ في هذه المخاوف؟ ربما.يجب على الحكومات والشركات والمجتمعات العمل معًا، لفهم وإدارة تأثيرات الذكاء الاصطناعي، إنه عصر جديد مليء بالفرص والتحديات، ويتطلب منا الحكمة والوعي للاستفادة من هذه التكنولوجيا بأفضل الطرق الممكنة، مع تقليل مخاطرها وضمان مستقبل آمن ومستدام للجميع.وختاماً، فإن الذكاء الاصطناعي آتٍ كالنهر العظيم، في تياره قوة هائلة، قد تروي الصحراء أو تغرق القرى. وكما ابتكر الأولون الأشرعة والسدود ليسخروا قوة الرياح والأنهار، علينا اليوم أن نبتكر «أشرعة» فكرية و«سدوداً» أخلاقية لنوجه هذا النهر نحو خير ...
    Show More Show Less
    5 mins
  • الذكاء الإصطناعي وتساؤلات مشاري الذايدي - مقال صوتي
    Oct 25 2025
    الذكاء الاصطناعي وتساؤلات مشاري الذايديللكاتب محمد الجدعيفي مقالٍ نُشر للزميل الكاتب والإعلامي المعروف مشاري الذايدي في جريدة «الشرق الأوسط» قبل أيام، بدأ مقاله بسؤال مهمّ: هل الذكاء الاصطناعي محايدٌ في معلوماته وتفسيراته وصياغاته بشكلٍ مطلقٍ متجرِّد؟! الحقيقة أن سؤاله هذا، وما جاء في مقاله ككل، يصلح لأن يكون افتتاحية قوية لنقاش أكبر حول مستقبل الذكاء الاصطناعي ومحدوديته أمام العاطفة الإنسانية الحقيقية.وأقول: لا شكّ أن الذكاء الاصطناعي بقدراته الخارقة على معالجة المعلومات، يمكنه أن يُنتج نصوصاً أدبية ويحاكي أساليب مختلفة، لكنه يظل عاجزاً عن «الإحساس» بالمشاعر البشرية كما يشعر بها الشاعر المفجوع، كعب بن سعد الغنوي، حين يرثي أخاه بحرقةٍ تمزّق الروح! قد يستعرض الذكاء الاصطناعي المرثية، يُحللها بلاغياً، يستنتج مواضع القوة فيها، لكن هل يستطيع أن يشعر بنبضها الداخلي، أن يعايش فقدان الأخ كما عاشه كعب؟ أبداً.المعضلة الكبرى ليست فقط في الذكاء الاصطناعي كمُنشئ للنصوص، بل في توجيهه، في المعلومات التي يلتهمها ليعيد تقديمها. وهذا يقودنا إلى أزمة «التوجيه البرمجي» و«التحيز الرقمي»، كما ظهر في خطأ روبوت «ميتا» الذي تسرّب له أن ترامب هو الرئيس، قبل أن يتولى الحكم فعلياً!أحد خبراء شركة ميتا، «يان لوكان»، يصف الذكاء الاصطناعي بأنه «لم يتجاوز بعد مستوى ذكاء قطة»! انتهى كلامه. الذكاء الاصطناعي اليوم طفلٌ صغير وذكي جداً، والداه (المبرمجون والممولون والمنصّات الكبرى) هم من يقرّرون أي نوع من المعرفة يُسمح له بتعلّمه. فهل المعرفة التي تُغذّيه بها «ميتا» أو «غوغل» أو «أوبن أي آي» تمثّل كل الطيف البشري؟ وهل هي خالية من التحيزات السياسية والأيديولوجية؟ بالطبع لا. الذكاء الاصطناعي، رغم دقته المتزايدة، يظلّ مرآةً لمن صنعه وبرمجه. قد يكون مفيداً في الطب والهندسة، لكنه لن يكون بديلاً عن وجدان شاعر مفجوع، ولا عن ساردٍ يكتب بقلبه قبل قلمه. التكنولوجيا رائعة، لكن لا ينبغي أن نتركها تصادر إنسانيتنا!الدكتورة ميلاني ميتشل، وهي عالمة الحاسوب في جامعة بورتلاند، تقول إن ما نرصده اليوم «ليس سوى معالجة متقدمة للبيانات، ولا يمت بصلة إلى فهم حقيقي لما يجري حولنا»، كان هذا ردا منها على نقاش عالمي حول طبيعة الذكاء الاصطناعي وحدوده. فما نراه اليوم هو خوارزميات برمجة قوية لكنها فاقدة لأي وعي حقيقي. قد يتمكن الذكاء الاصطناعي من كتابة مقالٍ حماسي أو قصيدة بلاغية، لكنه لن يعرف يوماً ألم الفقد، ولن يذرف دمعة حقيقية على أخٍ راح ولن يعود.حقيقة الأمر أن النماذج الذكية الحالية، مثل النماذج اللغوية الكبيرة ChatGPT وDeepSeek وغيرها، أثبتت قدرتها على تحليل مليارات البيانات، تنفيذ الحوارات، وحتى إنتاج أعمال فنية. لكنها، رغم كل ذلك، تظلّ أدوات تعمل داخل حدودٍ ضيقة، ولا تمتلك المرونة أو الوعي بالعالم المادي. ببساطة، نحن نتعامل مع «ذكاء اصطناعي» ذكي في الظاهر لكنه محدود، يفتقر إلى التخطيط، فهم المشاعر، أو التكيف مع مواقف غير مألوفة.لكن ماذا عن المستقبل؟ الدكتور ستيوارت راسل من جامعة بيركلي يحذّر من تسارع التطور التقني الذي قد يجعل من الصعب التنبؤ بما هو قادم. فمنذ سنواتٍ قليلة، كانت هذه النماذج عاجزة عن التعرف على الصور البسيطة، واليوم باتت تنتج مقالات ...
    Show More Show Less
    6 mins
  • من لايملك الذكاء الإصطناعي يستبدل - مقال صوتي
    Oct 24 2025
    من لا يملك الذكاء الاصطناعي.. يُستبدل

    للكاتب محمد الجدعي

    في زمنٍ تتسارع فيه التقنية، وتتساقط فيه المؤسسات التي تراخت، لا مكان فيه للمترددين، إذ إن مؤسسات كثيرة، في القطاعين العام والخاص، عجزت عن اللحاق بركب الذكاء الاصطناعي، والبعض يتعامل معه كترف تنظيمي أو مشروع مؤجل. الحقيقة، كما يقولها الواقع بلا تجميل: من لا يبدأ اليوم، سيُجبر على الخروج غدًا، ولكن بشروط السوق، لا بشروطه.

    مؤسسة Gartner البحثية العريقة، وهي المرجع الأبرز في التوجيه التنفيذي للتقنية في العالم، قدمت تقريرًا بعنوان Executive Summary: The Impact of AI in 2025، رسمت فيه خريطة طريق دقيقة لتبني الذكاء الاصطناعي، متكئة على سبعة أعمدة، تبدأ باستراتيجية واضحة، وتنتهي بثقافة موظفين متفاعلة. التقرير لا يتنبأ، بل يوجه، ويضع المؤسسات أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا اعتماد الذكاء الاصطناعي في صميم النموذج التشغيلي، أو الانسحاب بهدوء من مشهد المستقبل.

    الأمر لم يعد يتعلق ببرمجيات متطورة أو بنى تحتية رقمية، بل بفهم المعادلة الجديدة: الذكاء الاصطناعي + الحوكمة + البيانات + الإنسان = نموذج مستدام. ووفقًا «لجارتنر»، فإن %35 من المؤسسات الكبرى ستُعيّن خلال عام رئيسًا تنفيذيًا للذكاء الاصطناعي، هذا المنصب ليس زينة هيكلية او عنوانا للوجاهة، بل مؤشر على أن التقنية باتت شريكًا في القرار، لا مجرد أداة دعم، ما يعيق هذا التحول ليس نقص الإمكانيات، بل ثلاثية قاتلة للطموح والإبداع والتطور، وهي: خوف متجذر من فقدان الوظائف، وتدريب هش وضعيف، وبيروقراطية قاتلة للحماس.

    في القطاع الحكومي، التحدي هنا أعقد وأعمق، والخسارة فيه أكبر وأشمل. الذكاء الاصطناعي لا يُزاحم الموظف العام، بل يحرّره من المهام المكررة، ويعيد توجيه طاقته نحو المهام البشرية الراقية، ولا يهدد الوظائف، بل يغير طبيعتها. الواقع أن الفارق اليوم لا تصنعه البرامج ولا كثرة الأموال، بل الرؤية وسرعة التكيف. ولكن في المقابل كانت هناك إخفاقات في بعض مشاريع الذكاء الاصطناعي، لم تكن بسبب ضعف التكنولوجيا، بل كانت بسبب ضعف الفهم والقيادة والمناخ التنظيمي.

    التحول الحقيقي يبدأ من «الذكاء الاصطناعي اليومي»: تطبيقات بسيطة في الموارد البشرية، الشؤون القانونية، والإجراءات الداخلية، كأن يستخدم لتصنيف المعاملات والوثائق تلقائيًا، أو تحليل عقود قانونية خلال ثوانٍ، ثم يصعد تدريجيًا إلى «الذكاء الاصطناعي التغييري»، الذي يعيد تعريف الخدمة العامة، ويجعلها أذكى، أسرع، وأدق. لا نجاح من دون رؤية واضحة، ولا تحول من دون ثقافة تنظيمية جاهزة. التقنية وحدها لا تكفي، ما يصنع الفارق هو القدرة على التفاعل معها بوعي، وتوظيفها بحكمة، أما من ينتظر، فسيجد نفسه خارج الصورة، يُستَبدل بخوارزمية أسرع، وفريق عمل أكثر استعدادًا.

    وفي الختام، رسالة «جارتنر» كانت واضحة:

    الذكاء الاصطناعي لا ينتظر المترددين، بل يستبدلهم.. فإما أن تصنع موقعك في المستقبل.. أو يُعاد تشكيله من دونك.

    جميع الحقوق محفوظة
    بودكاست بصمة رقمية
    Show More Show Less
    4 mins
  • عودة المارد الياباني تربك العالم - مقال صوتي
    Oct 24 2025
    عودة المارد الياباني... تربك العالمللكاتب محمد الجدعيماذا يعني أن تعود اليابان إلى مسرح أشباه الموصلات بتحالف إستراتيجي لتصنيع رقائق نانومترين؟ عندما ننظر إلى تاريخ هذه الصناعة، نستعيد ذكريات السبعينيات والثمانينيات حين كانت اليابان في صدارة تصنيع الدوائر المتكاملة، متربّعة بجانب الولايات المتحدة. ولكن في التسعينيات وبداية الألفية، صعدت كوريا الجنوبية وتايوان بقوة، لتسيطر على إنتاج الشرائح المتقدمة.واليوم، مع تصاعد التوتر في مضيق تايوان وتعقّد سلاسل التوريد، يظهر أن اليابان (بمساعدة شركة أمريكية) قررت استعادة أمجادها القديمة، مدفوعةً بشراكة مع شركة IBM العملاقة، عبر تأسيس المصنع الياباني الجديد «Rapidus»، في خطوة ترمي إلى تشغيل أول مصنع رقائق نانومترين بحلول 2027. وهذه الخطوة ليست مجرد قفزة تقنية، بل هي مناورة سياسية واقتصادية تهدف لتقليل الاعتماد على تايوان وكسر احتكار عمالقة الصناعة مثل TSMC التايوانية العملاقة وشركة سامسونج الكورية الجنوبية.قد يتساءل القارئ: ما النانومتر أصلًا؟ النانومتر هو واحد من مليار جزء من المتر، أي إنك لو قسّمت المتر الواحد إلى مليار قطعة، فكل قطعة تُسمى نانومتراً. وللتقريب أكثر، يبلغ سُمك شعرة رأس الإنسان نحو 80 ألف نانومتر. تخيّل إذًن أن رقاقة حجمها نانومتران تعني أنها أصغر من شعرة رأسك بعشرات الآلاف من المرات، وأننا نتحدث عمليًا عن عالم لا يُرى بالعين المجرّدة ويقترب من حدود الذرات نفسها.هذه القفزة ليست مجرّد مسألة تقنية، بل تمسّ صميم التوازنات العالمية. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، كان السباق مستمرًا لتصغير الترانزستورات وجعلها أكثر كثافة، وصولًا إلى تقنيات 7 و5 نانومترات، حتى اقتربنا من عتبة نانومترين، حيث يصبح التصنيع كأنه محاولة للتحكّم في الذرات ذاتها. اليابان تدرك أن تحقيق هذا الإنجاز سيمنحها قوة هائلة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والسيارات الكهربائية، وأجهزة الحوسبة الفائقة، لأنه كلما ضاقت المساحة، زادت الكفاءة، وقلّ استهلاك الطاقة.التحالف مع IBM ليس مجرد استعراض عضلات؛ إنه اجتهاد مشترك يجمع خبرة بحثية تاريخية مع إرادة سياسية واقتصادية صلبة. IBM تجد في اليابان شريكًا حقيقيًا لترجمة ابتكاراتها إلى واقع صناعي ضخم، خصوصًا أن تايوان اليوم تهيمن على أكثر من %90 من الرقائق المتقدمة. من هنا، تتضح الدوافع الجيوسياسية: تقليل الاعتماد على تايوان في لحظة ترتفع فيها حدة التوتر شرقي آسيا، والسعي لمنح الولايات المتحدة واليابان موقعا أقوى في مواجهة الصين.في ظل هذا المشهد، تصبح صناعة الرقائق شبيهة بامتلاك سلاح استراتيجي. إذا نجحت اليابان في مساعيها، فستعيد رسم خريطة أشباه الموصلات، وقد تواجه ردود فعل غاضبة من بكين، وسعيًا مكثفًا من كوريا وتايوان للحفاظ على مكانتهما. لكن اليابان تراهن على أنه لا وقت للتردد؛ فمن يستطع السيطرة على هذه الصناعة، يضمن نفوذًا واسعًا في مجالات الدفاع والاتصالات والاقتصاد.السباق هنا تقني وسياسي في آن معًا، ولا أحد يعلم إن كانت اليابان ستنجح في تجاوز التحديات المالية والهندسية لتعيد كتابة قواعد اللعبة. لكن المؤكد أن الإجابة لن تتأخر؛ فالعالم يعيش لحظة مفصلية، ورقائق نانومترين هي أشبه بأداة سحرية في عالم يكافئ من يتجرأ على كسر الحدود والتحديق في المستقبل ...
    Show More Show Less
    6 mins
  • التقادم الإلزامي
    Oct 23 2025
    حلقتنا اليوم عن التقادم الإلزامي


    في زمن تتكدّس فيه الأجهزة الملقاة أكثر من الموارد المصنوعة، يطفو مفهوم جديد في قلب النقاش الصناعي: “التقادم الإلزامي”. فكرة تبدو متناقضة لكنها تسعى لإعادة تعريف الفناء كخطةٍ للبقاء، لا كرمز للهدر.

    عندما يصبح الفناء خطة للبقاء.

    حياكم

    جميع الحقوق محفوظة
    بودكاست بصمة رقمية
    Show More Show Less
    24 mins
  • حين تفكر الخوارزميات بدلًا عنك
    Oct 21 2025
    هل تذكرون الإنترنت البسيط في التسعينيات؟ ذلك العصر الذي كنا فيه "نبحث" عن المعلومة؟

    في هذه الحلقة الجديدة من بودكاست "بصمة رقمية"، يأخذنا المهندس حسين النكاس والأستاذ محمد الجدعي في رحلة من ذلك الماضي البسيط إلى حاضرنا المعقد، حيث لم نعد نحن من يقود، بل أصبحت "الخوارزميات هي السائق ونحن مجرد ركاب".

    نغوص في مفهوم "فقاعة الترشيح" (Filter Bubble) وكيف أصبح لكل واحد منا "إنترنت" مصمم خصيصاً له، ونطرح السؤال الأهم: هل أصبحت "الحقيقة" مجرد "طبق من كود" يُقدّم لنا؟

    تناقش هذه الحلقة كيف تتعلم الخوارزميات سلوكنا، وتتنبأ باهتماماتنا، بل وكيف قد تُستخدم لإعادة تشكيل وعينا ببطء.انضموا إلينا في نقاش صريح حول:
    • -مخاطر الإنترنت المغلق الذي نعيش فيه.
    • -مفهوم "الوعي الخوارزمي" وكيفية "كسر النمط" للخروج من سيطرتها.
    • -مقارنة بين خوارزميات "تيك توك" في الصين وباقي العالم.
    • -الحل في "التحرر الرقمي" (Digital Detox).
    حلقة أساسية لفهم من يختار من: هل نحن نختار الخوارزمية، أم هي التي تختار لنا؟

    جميع الحقوق محفوظة
    بودكاست بصمة رقمية
    Show More Show Less
    25 mins